لهيب الشوق (عبرات) للشاعر أحمد جيجان من سورية
لَهيب الشَّوقِ ( عَبَرات )
كــانَ يحلمُ بهواها و لِقاءها في المساء ، و ليس له من سعادةٍ إلا كلماتُ رسالتها . و إنّهُ في انتظارها و هو يستعرض النجوم ، و قد غرقَ في أشواقهِ و لوعاتهِ ، و إذا هي تقبلُ كما الدنيا الباسمة بآمالها و مسرّاتها ، فيلتقي لهيبُ وجدهِ برائعِ جمالها ، فيَخِرُّ ساجِداً ، و تحنو عليه كما تحنو الآلهة ...
مرَّ يومٌ على المشوقِ فلمّا أَقبلَ الليلُ أَجمَلَ استقبالا
و خَلا يَعرضُ الأزاهير ألواناً
و يُزَجّي رسومه أشكالا
جاهِداً لا يَمَلُّ شُغلاً ولمّا وقفَ الشغلَ راحَ يشكو الملالا
وهوَ في كلِّ لحظةٍ يلحَظُ الأبوابَ ما إنْ يرى عليها خَيالا
فَاسْتوى يائِساً وقال كيف تنسى ذاتُ المطالِ المَطالا
ثمّ هَوى إلى الرسالة يستوضحُ أسطرها هدىً أمْ ضلالا
وإذا دَقَّةٌ على دَفَّةِ الشّرفة جالَتْ بمسمعيهِ فَـجالا
وارتمى خارج المكان فلم يُبصرْ سوى نفسه ، فدار خِبالا
و انثنى راجعاً وفي النّفس ما فيها وفي العينِ دمعٌ يَتلالا
غير أنْ شدَّ ما جثا حين ألفاها بإيوانهِ تَميسُ اختيالا
وهيَ تَرنو لغيرِ شيءٍ و قد أَوْلَتْهُ صدّاً مُزَوَّراً و دلالا
ثمّ قَضَتْ من الصَّمتِ ما شاءَتْ وساءَ الفتى مع الصمت حالا
نَوَّمـتْـهُ بنـظرةٍ و بـأُخـرى أيـْقَظَتـْه و أقْبَـلتْ إِقبــالا
فانبرى يُفرغُ الأزهار أسْماطاً عليها و يلثُـم الأذيــالا
و أرادَتْ به الذي قد أرادَتْــهُ فَألقَتْ وِشاحها ادلالا
و بَدا جِيدُها وما حَمَلَ الصّدرُ فمـا شِـئْتَ رَوعةً و صِقـالا
مثْـلما قَلُصَ الكَمام عن الزهرة فاستَرْسَلَتْ شذىً وجَمالا
أو كمـا مَـزَّقَتْ غَلائلَها الشّمسُ فأغَضَّتْ لها العيون كِلالا
ضَلَّ رُشد الفتى فأَقبلَ يرعاها كما لو رعى البخيلُ مالا
ومضى يَعرِضُ الصّبابَةَ شَرْحاً وهي تَعرِضُ الصِّبا إجمالا
ورأتْ طَرسَها إليهِ فَهَمَّتْ تشعلُ النار تحتَهُ إشعالا
وتلاقى اللهيبُ والخَدُّ فيها مثلما صادَفَ المِثال المِثالا
فإذا شُعلتان في فَحمة الليل قد اِمْتـازَتا لظىً واشتِعالا
ثمّ قالت له وقد خَبَتِ النار كذا جِئْتَ فاضْرِبِ الأمثالا
إنّ حبي شرارةٌ ، فلَهيبْ ، فَرمادٌ فهل تُطيقُ احتمالا ؟
قال ، بل أرضى هواكِ هواناً وأرى ذُلَّتي به إجلالا
إنّ الذي أرى من نعيـمٍ فوق شأو الخيالِ مهما استطالا
إنّها في الكرى وإنّ الرائي لِأطياف حلمها تتوالى
قالت ، الآنَ يا فتى دُنْـتُ بالحُسنِ وآمنتُ بالهوى فتعالا
ثمّ غابا بِجوفِ سيارة قَوْراء لَمْ تَـأْلُ في الظلام انْسِـلالا ...
يَحْسَـبُ العاشقَان حين تَوَلَّـتْ لم يُحِسّـا لسَيْرِها إخلالا
جولَةٌ أَبلَغَتْهُما ظِـلَّ قَصْـرٍ طاوَلَ السُّـحبَ في العلاءِ ، فَطالا
صاحَتْ بهِ : اِنْزِلْ فقد حَلَلْـنا بقَصرِ الشَّوقِ ، حُطَّ الرِحالا
فَرأَى مَنزِلاً غَرِيّـاً و بُستاناً جَنِـيّاً و غادةً مِكسـالا
*****
( 2 )
طَلَـعَ البَدرُ على الرَّوضِ بالضِّياء و حيّـا نِسرينَهُ المَيّالا
و على ضِفَّـةِ الغَـديرِ حبيبان سعيدان قَد أطالب اعتِزالا
يُنقِذان الزَّهرَ الغريقَ من الماءِ و لا يألُوانِ عنهُ نِضالا
و رآها تُعارضُ الماءَ بالكَفِّ كما عارَضَ الزُّلالُ الزُّلالا
قال : يا وَيلتا تَنَحّي بَعيداً أنتِ منه و قدْ خَشِيتُ اِتصالا
فَتَسامَتْ تُطيلُ في البَدرِ تحديقاً و قد سَدَّدَتْ إليهِ النِّبالا
قال هلّا جَنَّبْتِهِ أن تُصيبيهِ فَيَنْقَضَّ من عُـلاهُ اِختلالا
و ثَنَتْ عَطفَها عليهِ و مالَتْ ما إنْ سَرى النسيمُ فَمالا
ثمَّ نامَتْ فقالَ : قد نامَتِ الفُتنَةُ لكنَّ فِعْلَها ما زالا
ظَلَّ يُغري بِخَدِّها طَرْفَهُ الثّاقبِ لا يَـوَدُّ عنهُ اِنتِقـالا
و يرى شَعْرَها تُـداعِبُهُ الرّيحُ فَيُحاكي ذُيولَها استِرسالا
و جُفُوناً تَـكادُ أهدابُها تَطْبَعُ في ماءِ خَـدِّها أمـْثالا
جَمَعَ النَّـومُ بينـَها فَتَلاقتْ و كذا النَّـومَ يَجـمَعُ الضّـلّالا
يالعَوبَ القَوامِ و الطّرفِ ما أسْرَعَ أنْ رَضِيتِ سـِيما الكُسالى
نِمْتِ عنّي تَصَنُّعـَاً ثم لمّا النوم أضحى حقيقةً لا خيالا
نِمْتِ عن نَفْسٍ كبيرةٍ واعْتَضْتِ عن الحَذَرِ و الصَّدِّ اِمتِثالا
أنتِ في قَبضَتي و طَوعُ يميني فإذا شِئْتُ نُـلتُ منكِ منالا
غيرَ أنّي إذا هَمَمتُ بكِ انْـحلَّ لِهَولِ المَقامِ عزمي اِنحِلالا
لستُ أدري و أنتِ يقظى و وَسْنى أيُّ حاليكِ لي أقَلُّ نَوالا
أنا من رَهبتي و من عِزَّةِ الحُسنِ أرى جُرأتي عليكِ مُحالا
ياليالي الّلقاء طُولي على الصَّبِ و افْـنِ الشهور و الأحوالا
أنتِ مهما عَلَوتِ في الطولِ قصُرتِ وإن بزَّ طولكِ الأجيالا
سوفَ إنْ زِلْـتِ لا يَخالُكِ إلّا بارِقاً لاحَ في الظّـلامِ و زالا
خَفِّضي ، خَفِّضي خُطـاكِ فإنّ الصَّـبَ غافٍ و أجملي إجمالا
هي كالطّفلِ نامَ بعدَ بُكاءٍ و أرى الخَطْوَ يوقِظُ الأطفالا
إنّها نَومَةٌ كما خَدَّروا المُعتَلَّ حيناً فما أَحَـسَّ اِعتِلالا
أيُّها الوالهون حيّاكُمُ الحُسْنُ و بيّاكُمُ الإلـٰه تعالى
إنْ تكونوا بِنعمَةٍ فاغْنَموها سوفَ يبقى إكثارُها إقْلالا
إنَّ عُمْرَ النَّخـيلِ في رَغْدَةِ العَيشِ كعُمْرِ الزَّهرِ فَاَخْـشَوا زَوالا
لا تَقولوا قد قَصَّرَ النَّحْسُ عنّـا فلياليهِ قد يَجِئْنَ طوالا ...
*********************
أحمد جيجان _ دمشق
تعليقات
إرسال تعليق