هنا نابل . مقال للكاتب المعز غني من تونس
هنا نابل / بقلم المعز غني
في زمن الذكاء الاصطناعي والفايسبوك ، تتساقط الصور القديمة في ذاكرتنا كأوراق الخريف ، وتنكشف لنا المسافات الشاسعة بين الأمس واليوم …
في الماضي ، كان الإقتراب من هاتف المنزل ☎️ مغامرة محفوفة بالمخاوف.
كان الهاتف صندوقًا سحريًا لا يجرؤ على لمسه إلا الأب أو الأم ، وإذا رنّ صوته الجهوري تعالى أمرهما الصارم: « لا أحد يرد ...! ».
كان الأب يومها عملاقًا حقيقيًا ، يكفي أن نسمع وقع خطواته في ردهة البيت لننكمش إحترامًا، وأن نرى بريق الرضا في عينيه لنشعر بأن الدنيا بأكملها قد صارت لنا عيدًا.
كانت المدارس على بُعد كيلومترات ، لكنها كانت أقرب إلينا من قلوبنا اليوم لبعضنا البعض ؛ نمشي إليها بفرح كل صباح، دون خوف من إختطاف أو حادث ودون حافلات مكيفة أو سائقين يلتهمون الطرقات بتهور.
في الماضي ، لم تكن هناك « جراثيم » تتربص بنا في كل مكان ، ولم نكن نعرف شيئًا عن سوائل التعقيم التي صارت جزءًا من يومياتنا ؛ ومع ذلك لم نمرض إلا قليلًا ، وكنا نقفز ونلعب وننمو بقوة.
كانت للأم مهابة ، وللمعلم هيبة ، وللمسطرة الخشبية الطويلة رهبة تعلمنا بها القراءة والكتابة وجدول الضرب وحفظنا عن ظهر قلب وكل ذلك قبل أن نبلغ التاسعة من العمر.
في الماضي ، كان إبن الجيران يدخل بلا موعد يطرق بابنا خجلاً ليقول: « أمي تسلّم عليكم وتطلب بعض البصل أو الخبز أو زيت زيتون ... إلخ» ، وكان الجيران إخوانًا نتشارك معهم اللقمة قبل الكلمة.
وكان الليل حين يحلّ تصمت الشوارع ويعمّها الهدوء بعد العاشرة ، وكانت بيوت الناس مشرعة أبوابها ، والقلوب أكثر إنفتاحًا من الشبابيك ، نرسل الأطباق المحملة بالطعام إلى بعضنا ، ونستقبلها بإبتسامة لا تعرف الريبة.
أما اليوم … فقد صارت الحضارة الحديثة التي تفاخرنا بها أداة لتجريدنا من إنسانيتنا ؛ صرنا نلبس أفخر الثياب بينما قلوبنا جرداء من الدفء ، نرتاب في كل من يطرق بابنا أو يقترب منا ، صرنا نتبادل الشك بدل السلام ، والقلق بدل الطمأنينة.
الخاتمة المؤثرة:
ما زال فينا الخير إن فتّشنا عن بقاياه في قلوبنا ، وما زال فينا الأمل إن تذكرنا أننا من صُنّاع الماضي الجميل.
لنجعل من ذكرياتنا نبراسًا يضيء دروب الحاضر ولنعيد للقلوب دفئها ، وللبيوت بسمتها.
فما قيمة الحضارة إن سلبتنا أجمل ما فينا … ألا وهي إنسانيتنا.
------
تعليقات
إرسال تعليق