الإنسان المعاصر وفقدان المعنى ..نص فلسفي للكاتب المصري هيثم سيف أبو المهاب

 الإنسان المعاصر... و فقدان المعنى 

  بقلم "هيثم سيف" 

من أبرز ملامح ما يُسمى بـ"ما بعد الحداثة" – وإن كنا لم نُسلم بعد بتمام الحداثة، ولا شهدنا دفنها حتى يُتحدث عن لاحقها – أنَّ الإنسان المعاصر بات يحتاج إلى المصحّة النفسية كما كان أجداده يحتاجون إلى المسكن، والمأكل، ورفقة الراحلة في سفر طويل!

كأننا نهضم الحياة بأمعاء خارج البدن، في مفارقة بيولوجية تشبه مفارقة هذا العصر في علاقته بذاته. ظاهرة تعمقت حتى باتت معاناة النفس وقود يومٍ لا يُطفأ، وقضّت مضاجع العيش حتى صار السلوى نوعًا من الخيانة الشعورية لواقع يصر على أن يكون ثقيلاً.

السؤال الكبير:

لماذا لم نرَ هذه الحاجة النفسية ماثلة في عصورٍ مضت؟ هل كانت النفوس آنذاك أطهر؟ أم كان التدين أعمق؟ أم كانت "مكارم الأخلاق" تقي الأرواح من التآكل؟ يُخيل للبعض أن الإجابة نعم. لكن مهلاً، فإننا لا نرد على البساطة إلا ببساطةٍ أشد: "ألا يبسطن أحد علينا... فنبسق فوق بسط الناس طيناً!" 😉

فمن أين جاء هذا السُّعار النفسي؟ ولماذا لم يُفترس المنافقون والفاسقون بل وحتى اللادينيون من قبل هذا العصر بالاكتئاب كما نُفترَس نحن اليوم؟ أين كانت أدواء القلق واللاجدوى حين كانت الأهواء على أشُدها والمظالم في كل مكان؟ أليس هذا دليلاً على أن المسألة لا تتعلق بالدين وحده، ولا بمحاسن العشرة ولا حتى "بمحاسن الحُلو"؟ بل لعلها تتعلق بشيءٍ أعمق، شيءٍ قديمٍ قِدم أسطورةٍ يونانية...

سيزيف... أول من ذاق طعم "اللاجدوى"

دعوني أروي لكم الحكاية:

كان سيزيف ملكًا ماكرًا على مدينة "كورينث"، وقد تحدى الآلهة بحِيله ومراوغاته، حتى وصل به الأمر أن خدع إله الموت "ثاناتوس"، وقيده بالسلاسل، فتوقفت الموتى عن الموت، وعمّ الخلل في العالم. وحين علم زيوس بما فعله، قرر معاقبته بعقاب لا يُفنى، ولا يموت: حُكم على سيزيف أن يدحرج صخرةً هائلة إلى قمة جبل، وما إن يصل بها إلى القمة، حتى تنزلق منه إلى السفح، ليعود في دحرجتها من جديد... إلى الأبد.

إنه عقاب "اللاجدوى" الأبدي. أشد من العذاب الجسدي. أقسى من الموت. عقاب يجعل العمل بلا معنى، والنتيجة لا تتحقق، والزمن لا يُنجز.

كتب "ألبير كامو" في تأملاته الوجودية عن هذه الأسطورة قائلًا:

"لا عقاب أشد على الإنسان من أن يُجبر على تكرار فعل لا طائل منه، أن يعيش داخل دورة لا مخرج منها، أن يُجبر على أن يكون بلا مغزى."

وهنا تبدأ الإجابة تتضح...

الإنسان القديم كان سيزيفًا، لكنه لم يكن يعرف!

كان السفر يتطلب أيامًا وأسابيع، بل وربما شهورًا، ولكنه كان حاملاً لمعنى. كان الزواج وبناء بيت يتطلب مجهودًا هائلًا، لكنه يفضي إلى سكن وسكينة. كان طلب العلم يقتضي ركوب المخاطر، لكن الغاية فيه عظيمة. وكان الشعر يُولد في البوادي على أفواه أميين، ويُخلد في الذاكرة، ويُجزى عليه بالذهب والجِمال.

أما اليوم... فأنت تكتب آلاف الكلمات ولا يقرؤها أحد، تحقق الآلاف الرقمية ولا تطمئن، تبني بيتًا وتنهدم داخلك عشرات البيوت، تصاحب مئات وتظل غريبًا، وتسافر بسرعة الضوء إلى كل مكان... دون أن تغادر الفراغ.

قال أحد الحكماء:

"أجمل ما في إيثاكا... هو الطريق إليها." لكن من يرضى اليوم بأن تكون الرحلة هي المكافأة؟

قال طرفة بن العبد:

"وإني لَأقضي الهَمّ عند احتضارهِ     

           بعَوجاءَ مرقالٍ تروحُ وتغتدي" 

كان الفارس الجاهلي يداوي همّه بالرحيل، بالفرس، وبنشوة الطريق. أما همومنا نحن... فتعشعش حتى في طيات الراحة، وداخل كبسولة النوم!

إذًا، ما الذي تغير؟

لقد تغير المعنى. تآكل، تبخر، ثم صرنا نبحث عنه في الطب النفسي، كما كنا نبحث عنه يومًا في الدين، أو في الفلسفة، أو في الشعر.

لقد صرنا نعيش عقوبة سيزيف لا كرمزٍ، بل كواقع: ندفع صخرة العمل، والأسرة، والمال، والمكانة، نحو القمة كل يوم، وما إن تلوح لنا لحظة الاطمئنان... حتى تهوي الصخرة، وتبدأ الدوامة من جديد.


إن مشكلتنا ليست في نقص "الراحة"، بل في نقص "المعنى".

وليس الاكتئاب إلا طفلًا شرعيًا لهذا العطب الوجودي. فإمّا أن نعيد للحياة معناها، أو نظل ندور مع سيزيف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها...



 " أبو المهاب "

  "هيثم سيف"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عناق .. قصيدة للشاعر اليمني د. جلال أحمد المقطري

جنون قصيدة للشاعر د. جلال أحمد المقطري من اليمن

مع القافيه .. قصيدة للشاعر د. جلال احمد المقطري من اليمن