الهيبة المهدورة .. قصة قصيرة للكاتب ماهر اللطيف

 الهيبة المهدورة


بقلم: ماهر اللطيف


لا يزال عالقًا في ذاكرتي مشهد والدتي وهي تلج غرفتي المعتمة في إحدى الليالي، أشعلت المصباح، فرأتني ممدّدًا على فراشي، وقد ارتسمت على وجهي ملامح الكآبة والوجوم. دنت مني برفقٍ ورفق، وألحّت في التماس علّة ما بدا عليّ من شرودٍ واكتئاب. تمنّعت، أنكرت، تهرّبت منها مرارًا، لكن هيهات، لم تفتر عزيمتها، ولم تخبُ إرادتها، بل أصرّت حتى انكسرت مقاومتي واستجبت لرجائها.


أفضيت إليها بخيبة أملي في من كنت أعدّهم الأقرب إلى قلبي؛ خذلني أكثر من زميل، وغدر بي إلياس، رفيق دربي، وتنكرت لي من أحببتها، بل سبقها في الجحود كل من عاملتهم بصفاء نيّة، ونقاء سريرة، وإخلاصٍ لا تشوبه شائبة.


انسحبت والدتي عائدة إلى والدي، حاملة معها ما استطاعت استخلاصه من تفاصيل، بعد أن هدّأت من روعي وأغرقتني بقبلاتٍ مشبعة بالدفء، أنستني مرارة الواقع. حدّثته بما دار، وأضافت عليه "بهارات" من الخيال لتُحرّك وجدانه وتستنفر حميّته ليناصرني فيما ألمّ بي من وجعٍ نفسي.


طرق باب غرفتي برفقٍ وحنو، بسمل، وألقى التحية، ثم دخل وأغلق الباب خلفه، والابتسامة تكلّل محيّاه كعادته. صافحني، تثبّت في عيني مطوّلًا، أدخل يده في جيب سرواله، وأخرج منه خاتمًا ذهبيًا باهت اللون، أنهكته السنون، غريب الهيئة والمظهر. بسط كفّي، وضعه فيها، ثم قال بصوتٍ رخيم:


— سأُريك كنزًا نفيسًا لا يُقدّر بثمن، ورثته عن أبي، الذي بدوره ورثه عن جدّه. هذه الجوهرة تعود إلى أكثر من خمسة قرون.


— (بتعجّب): قطعة أثرية؟


— (ضاحكًا): بل هو وسمٌ عائليّ، شارة رمزيّة ضاربة في جذور الزمن.


— (بفخر): أمرٌ مُبهر...


استرسل في سرد تاريخ هذا الخاتم، كما عرّج على غيره من التحف الموروثة، ثم اقترب مني وهمس في أذني هامسًا:


— ستؤول إليك قريبًا بلا شك، وحينها ستورّثه لولدك إن شاء الله، لكن قبل ذلك، أريد منك أن تذهب به إلى أحد أمهر الصاغة، وتخبره أنك تنوي بيعه.


لم أعترض، فانطلقت صباح اليوم التالي إلى وجهتي، التقيت الصائغ المقصود وعرضت عليه الخاتم. ثم عدت إلى والدي وأعلمته أن الخبير قدّر قيمته بمائة دينار لا غير، وصرّح بأنه لا يصلح للاستعمال أصلًا.


ابتسم والدي، ربت على كتفي، ثم أوعز إليّ بأن أستطلع رأي تجار الذهب. قصدت محالهم، ثم عدت خائب الأمل، أخبرته أنهم قيّموه بما بين خمسين وسبعين دينارًا، وبعضهم زهد حتى في تفحّصه.


ابتسم مجددًا، وطلب منّي عرضه على إدارة المتحف الوطني. نفّذت ما طلب، وعدت متهلّل الوجه، أخبرته أن المسؤول في المتحف أبدى إعجابه الشديد بالخاتم، وعرض عليّ مبلغ خمس مائة مليون دينار، بل ضاعف المبلغ حين رآني مترددًا، مؤكّدًا أنّه قطعة تاريخية نادرة لا تُقدّر بثمن.


حينها، استدعاني والدي وجلب والدتي، ثم أعلن أمامنا بصوتٍ جهوريّ واثق:


— أرأيت، بنيّ؟ عندما يُوضَع الشيء في موضعه السليم، تُقدّر قيمته، ويُرفع شأنه، ويُحاط بالاحترام والاعتبار. أما إذا أُسئ تقديره ووُضع في غير موضعه، فإن منزلته تتلاشى، وتضمحل هيبته.


أنت من يضع لنفسه الميزان، من يعلي شأنها أو يُهوّنه، بحسب من تجالس، من تصاحب، من تضعهم في محيطك. إن ارتقيت بها، سمت بك، وأجبر الناس على توقيرك، ومنحتك الحياة المقام الذي تستحقه. وإن انحدرت بها إلى الحضيض، داستك الأقدام، وغرقت في وحول النكران، والابتذال، والدونية.


للأسف، أنت اليوم قابع في قاع المجتمع، في موقع لا يليق بك. فانهض! انفض غبار الانكسار، عبد دربك نحو النور، حدّد غاياتك، وتوكّل على الله، امضِ قُدمًا نحو النجاح والسمو، حلق عاليًا في سماوات الصفاء والكرامة، حيث تستعيد قيمتك المهدورة، وهيبتك الضائعة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عناق .. قصيدة للشاعر اليمني د. جلال أحمد المقطري

مع القافيه .. قصيدة للشاعر د. جلال احمد المقطري من اليمن

جنون قصيدة للشاعر د. جلال أحمد المقطري من اليمن