حياة من أعماق الموت .. قصة قصيرة للكاتب ماهر اللطيف

 حياة من أعماق الموت 


بقلم ماهر اللطيف


 غالبا ما كنت أعود إلى الدار بعد الدوام خائر القِوَى، أعتكف في غرفتي لا أغادرها إلا لقضاء بعض الشؤون الحياتية المعتادة، أنزوي، أبكي، أصلي، أدعو الله، أقرأ ما تيسر من القرآن، أطالع بعض القصص أحيانا، أنام كثيرا إلى أن أحسست أن فراشي أمسى يتضجر مني ومن كثرة الالتحام به.


 كنت منبوذا من زملائي، مكروها من أعرافي، غير ذي مكانة بين المواطنين وكل الذين أتعامل معهم، محتقرا من إخوتي، متجاهلا من أترابي وأصدقاء الطفولة، لأنني كنت غليظا، فظا، قبيح اللسان وسليطه، غير اجتماعي، لا أجامل ولا أنافق، لا أعرف للحنان واللين طريقا.


ورغم ما سُدي إلي من نصح وما صُب في أذني من توجيه من والدي - رحمه الله -، أو والدتي - حفظها الله -، القلائل الذين ما زالوا تهمهم مصلحتي، إلا أنني لم أتغير، لم أعدل من تصرفاتي وسلوكي، بل لم أفكر في ذلك رغم ما كنت ألاقيه من معاملات من طرف الجميع تقريبًا إذ كنت أعد نفسي على صواب والبقية مخطئين.


يوما بعد يوم، ازدادت مشاكلي، همومي، آلامي، شعرت أنها تردمني، تجثو على صدري وكل جسدي، تقبرني وأنا حي يرزق، تدفني ولم أنعم بالوجود وما فيه بعد، تزيدني جفوة على جفوة حتى مع نفسي.


صحت عاليا مستنجدا يومها - وكان والدي "رحمة الله عليه بعد رحيله منذ سنوات" يصلي الظهر -، فقدمت والدتي مهرولة وهي تقول بصوت مرتفع وقد تبللت عرقا "اسرع يا عبد المنعم اسرع، يبدو أن سالما قد أصابه مصاب أكبر من سابقاته، لقد تطور الأمر وتنامى على ما يبدو".


وماهي إلا لحظات حتى اقتحما غرفتي بقوة وهما محتارين، خائفين، مترددين، وجداني قابعا في ركني، متكورا على نفسي كجنين يتأهب للموت لا الولادة، أضم ركبتي إلى صدري بذراعي، أبكي بحرقة وقد انتفخت عيني اليمنى قبل أن يغزوها اللون الأزرق بعدها، صاحت عائشة مذعورة:


- من النذل الذي فعل بك هذا؟ (تقترب مني، ترفع رأسي بعد أن مسكتني من ذقني)لماذا كل هذه الوحشية؟


- (أبي ساخطا ومزمجرا بصوته الخشن) إلى متى ستبقى هكذا يا سالم؟ متى ستسلم من نفسك وتحررها من قيود شخصيتك الغريبة؟


- (أنا بصوت متقطع)بلغ السيل الزبى يا أبتاه، كل الناس يكرهونني، ينفرونني، يبتعدون عني، حتى إسلام صديقي الوحيد لكمني اليوم وفعل بي ما فعل لأني فضحت خيانته لزوجته أمامها ما إن رأيتها.


واصلنا الحِوَار، أعلمتهما أني قد ألجا إلى الانتحار إن تواصلت حياتي على نفس هذه الوتيرة، فقد يئست، فقدت كل نكهة وأمل في الحياة، فقال لي والدي حينها :


- اسمع أ بني، يحكى أن فارسا كان يتجول بفرسه يوما في إحدى الغابات، غفل عنه لحظة، لم ينتبه الحصان إلى وجود بئر مهجورة، سقط فيها وشرع في الصهيل عسى صاحبه ينقذه. وبعد محاولات متعددة، يئس الفارس، فكر مليا، ثم قرر وأد الحصان، بما أن تكلفة إنقاذه تتجاوز قيمته الحقيقية. 


فعلا شرع في ردم الحصان بإلقاء التراب عليه دون توقف أو رأفة بحركات سريعة ومتتالية، والحصان يصهل وكأنه يلوم صاحبه ويستجديه، لكن الفارس أصر على صنيعه.


في الأثناء، كان صهيل الحصان ينقص من حين لآخر حتى خفت مرة واحدة، هل تعلم لماذا يا سالم؟ هل تعتقد أن الحصان مات؟ أغمي عليه؟ (وكنت أشير له برأسي بعدم مقدرتي على الإجابة).


حسنا، لم يمت الحصان يا بني، بل كان ينفض عن جسده ما يلقى عليه من تراب، يعتليه طبقة إثر طبقة حتى ارتقى وخرج من البئر سالما.  لقد جعل من هذا التراب سلما للخلاص، ولقن صاحبه درسا بليغا في الصبر، المكابدة، التشبث بالحياة، التعلق ببصيص أمل َ


وبعد أن أكمل سرده، رافق أمي وتركاني وحيدا أتأمل فصول الحكاية، أنقب في طياتها عن معنى الحياة وأطواق النجاة، وأقلب مغزاها بين جنبات نفسي المتآكلة.

 

 حينها، أدركت الدرس العظيم الذي لقنه لي والدي بطريقته الفذة، الذكية:


لا تستسلم، لا تنكس رايتك أمام رياح اليأس، لا تمت وأنت حي، اجعل من كل خيبة درجة، ومن كل حفنة تراب سلما، ومن كل أزمة منطلقا. 


فكر مليا، أنقد نفسك وانقذها، غير ما يجب تغييره، لا ترتهن لظروفك وانهض. لا تنسي أنه"لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عناق .. قصيدة للشاعر اليمني د. جلال أحمد المقطري

مع القافيه .. قصيدة للشاعر د. جلال احمد المقطري من اليمن

جنون قصيدة للشاعر د. جلال أحمد المقطري من اليمن